
في عالم تتغير فيه بوصلة العلاقات الدولية كل يوم، يبرز حالياً دور التكنولوجيا والاتصال وتدفق البيانات كأداة مؤثّرة في إعادة تشكيل موازين القوى ورسم خريطة النفوذ العالمي.
وإذا كان العالم العربي يتمتع منذ عقود طويلة بأهمية استراتيجية نابعة من موقعه الجغرافي في قلب العالم، فإن توظيف بعض دول الخليج خاصة المملكة العربية السعودية لمواردها وإمكاناتها المالية والتقنية والسياسية للاستثمار في قطاع التكنولوجيا وتنويع الموارد الاقتصادية وزيادة الإيرادات غير النفطية والبعد عن المصادر التقليدية، والانتقال من التحوّل الرقمي إلى الذكاء الاصطناعي في كافة القطاعات لا سيّما في مجالات حيوية مثل التعليم والأمن والمدن الذكية، عزّز من مكانتها ونفوذها على الساحة الإقليمية والدولية.
وساهمت الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السعودية وما تخللها من مواقف سياسية واستثمارات ثنائية في مجالات التكنولوجيا في تكريس مكانة المملكة كحليف أوّل للإدارة الأمريكية في المنطقة وكشريك أساسيّ ليس فقط على المستوى الاقتصادي لكن أيضاً في النفوذ السياسي للمنطقة.
وقد دفعت طبيعة وحجم الاتفاقيات الثنائية في مجالات الذكاء الاصطناعي التي تمّ إبرامها في الزيارة الأخيرة لـ"ترامب" إلى المملكة موقع "بلومبرغ" إلى وصفها بمثابة "فتح بوابات الذكاء الاصطناعي" ليس فقط للمملكة بل أيضاً في العالم.
التجربة السعودية من الطموح والرؤية إلى التنفيذ
يشكّل الاستثمار في الذكاء الاصطناعي جزءاً أساسياً من "رؤية المملكة 2030" التي أطلقتها في العام 2016 لتنمية المجتمع والاقتصاد السعودي، ولتطوير الحوكمة وتعزيز موقع السعودية الاستراتيجي وقوّتها الاستثمارية، وقد وضعت المملكة في هذا المجال خطة متكاملة تنقسم إلى 8 محاور رئيسية وهي:
- الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي
تُعدّ هذه الاستراتيجية جزءاً من "رؤية المملكة 2030" لتعزيز الاقتصاد الرقمي، بحيث تعمل على تحويل المملكة إلى مركز للتكنولوجيا والابتكار ما يجعلها ضمن أهمّ 15 دولة في الذكاء الاصطناعي حول العالم بحلول العام 2030.
وتعمل هذه الاستراتيجية على تمكين وتدريب 20 ألف متخصص وخبير في علوم البيانات والذكاء الاصطناعي تحفيز ريادة الأعمال وإنشاء 300 شركة ناشئة في قطاع البيانات والذكاء الاصطناعي، وتوفير بيئة تشريعية أكثر تشجيعاً للشركات المتخصصة بالبيانات والذكاء الاصطناعي.
2.تشكيل الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي- سدايا
تعمل الهيئة على تحقيق عدة أهداف، أبرزها: تمكين الطاقات السعودية الشابة عبر ابتكار حلول رقمية وبناء مستقبل يعتمد على البيانات والذكاء الاصطناعي، وحوكمة البيانات والذكاء الاصطناعي وتطوير الأنظمة الذكية لدعم الاقتصاد الرقمي، وإدارة المركز الوطني للذكاء الاصطناعي لتطوير الحلول التقنية وتنفيذ المشاريع البحثية، وتعزيز الشراكات الوطنية والعالمية في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي لبناء اقتصاد سعودي قوي.
3.الاستثمار في البنية التحتية الرقمية
تُعد المملكة العربية السعودية من بين الدول الرائدة في الاستثمار بالبنية التحتية للذكاء الاصطناعي. وحسب تقرير أصدرته شركة "Twimbit 2024" ، فإن المملكة لديها 22 مركزاً للبيانات بالإضافة إلى 40 مركزاً إضافيّاً قيد التطوير، وتعمل على توطين تقنية "Blockchain" مع تحفيز الاعتماد عليها للارتقاء بمستوى الأداء وجودة الخدمات، وتعتمد 48% من المؤسسات السعودية على الحوسبة السحابية كما تخصّص المملكة ميزانيات ضخمة للاستثمار في المدن الذكية مثل: "نيوم" و"القدية" وإنشاء المدن المستدامة.
4.بناء كوادر بشرية متخصصة وتطوير المواهب التقنية
يمثل تدريب الكفاءات على المهارات والتقنيات في قطاع البيانات والذكاء الاصطناعي أحد أولويّات "رؤية المملكة 2030" وذلك من خلال:
- الأكاديميات التكنولوجية مثل "سدايا" التي تقدم برامج تدريبية بالتعاون مع الجامعات والمؤسسات الأكاديمية.
- برامج الابتعاث في الذكاء الاصطناعي لتوفير الكفاءات المؤهَّلة وتعزيز جودة الأبحاث العلمية.
- معهد تقنية المعلومات لتدريب وتطوير الكوادر بهدف رفع كفاءة موظفي الجهات الحكومية في التحول الرقمي.
5.استثمارات ضخمة في التكنولوجيا
تسعى المملكة إلى تحفيز الاستثمار المستدام في مشروعات التكنولوجيا من خلال:
- صندوق الاستثمارات العامة (PIF): يعد الصندوق محرّك التحول الاقتصادي للمملكة، ويعمل على تعزيز منظومة الذكاء الاصطناعي من خلال الاستثمار والشراكات الدولية.
- الشركة السعودية للاستثمار الجريء (SVC): تعمل على تحفيز الاستثمار في الشركات الناشئة بمجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
6.إطلاق شركة "هيوماين" لتطوير الذكاء الاصطناعي
قبيل زيارة "ترامب"، أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن إطلاق شركة "هيوماين" كرائد عالمي في مجال الذكاء الاصطناعي لتمكين وتطوير القدرات البشرية وفتح آفاق جديدة في الاقتصاد الرقمي.
7. الشراكات والاتفاقيات الدولية وبناء شبكة عالمية من التحالفات
أبرمت المملكة شراكات مع كيانات عالمية منها "غوغل" و"IBM"؛ لتعزيز القدرات في مجالي الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي ولتأسيس مراكز أبحاث للذكاء الاصطناعي بالمملكة.
8.تنظيم فعاليات دولية تجذب عمالقة التكنولوجيا
تعد القمة العالمية للذكاء الاصطناعي أحد أهم القمم العالمية لتعزيز التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي وتسليط الضوء على المشاريع السعودية المبتكرة.
السعودية قوة صاعدة في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي
تتمتّع المملكة بموقع جغرافيّ مهمّ بين قارات العالم القديم، وهو ما يوفّر لها مزايا لوجستيّة للعب دور مهمّ في مجال تطوير الشبكة العالمية الناشئة للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي والاتصال الرقمي، فبفضل موقعها الجغرافي، تستطيع المملكة العمل على توجيه البيانات وتمريرها بسرعة، وتوزيع قدرات الذكاء الاصطناعي عبر الثلاث القارات. هذه المميّزات تجعلها بوابة جغرافية للذكاء الاصطناعي تربط بين الأسواق الشرقية والغربية.
ويرتفع الطلب العالمي على الطاقة بفعل تزايد اعتماد العالم على أنظمة الذكاء الاصطناعي القائمة على الحوسبة، ومن هنا، تعتبر المملكة إحدى الدول القادرة على تنويع مزيج الطاقة ما بين الغاز ومصادر الطاقة المتجددة لإنتاج الكهرباء بأقل تكلفة، مما يوفر مصادر الطاقة باستمرار.
وتمتلك الرياض ميزة تنافسية تتمثل في الاستثمار بكثافة في البنية التحتية الرقمية والكابلات البحرية، ومراكز البيانات فائقة السرعة، مما يعزز من قدرتها على الاتصال العالمي، كما يعد السوق السعودي من الأسواق الواعدة تكنولوجيا، وخاصة مع تواجد شركات عالمية منها "مايكروسوفت" و"غوغل كلاود".
إذا وضعنا كل هذه المزايا بجانب الاتفاقيات والصفقات الأخيرة، سيتضح أن المملكة في طريقها إلى التحول لمركز عالمي للذكاء الاصطناعي في المستقبل القريب، بعد أن تصدرت بالفعل معيار الاستراتيجية الحكومية للذكاء الاصطناعي عالمياً على المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي 2024.
التكامل بين التقنيات الحديثة ورؤية 2030 لتعزيز النمو الاقتصادي والمجتمعي
وعمل المملكة على استثمار القدرات المحلية بهدف ترسيخ مكانتها كمركز عالمي للذكاء الاصطناعي، سيحقق لها القوة والريادة التكنولوجية ويضيف إلى رصيدها الاستراتيجي، وهو الأمر الذي سيصب في مصلحة المنطقة العربية ككل.
وحسب الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي، تعمل المملكة على تحقيق فرص استثمارية تقدّر بنحو 75 مليار ريال أو ما يعادل حوالي 20 مليار دولار بحلول العام 2030.
ويستهدف الاستثمار في التقنيات المتقدمة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي تنمية عدد من القطاعات مثل الصناعة والسياحة والصحة والتعليم والسفر والمال وبناء المدن الذكية.
يبقى أن نشير الى الأهمية الثقافية لنجاح التجربة السعودية التكنولوجية، حيث تُولي المملكة اهتماماً بإعادة اللغة العربية إلى المشهد الرقمي، ليس كمجرد لغة مدعومة، بل باعتبارها فاعل أصيل في صناعة الذكاء الاصطناعي مع تطوير نماذج لغوية عربية تُعد من بين الأقوى عالمياً مما يعيد للهوية العربية أصالتها.

سياسة
نناقش القضايا السياسية الرئيسية على المستويين المحلي والدولي، من تحليل السياسات الحكومية إلى القضايا الجيوسياسية والعلاقات الدولية. نقدم تغطية متعمقة للأحداث والتطورات السياسية، مع دراسات وتحليلات تسلط الضوء على التحديات والفرص في المشهد السياسي المعاصر.
عرض جميع المدونات >
0 التعليقات
اترك ردًا
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة مميزة بعلامة *